مقال للدكتور مصطفي محمود .
تصلني أحياناً من القراء
تعليقات جادة و تساؤلات حول ما أكتبه ..
و البعض يلتقط عبارات من كتب قديمة
صدرت لي منذ ثلاثين عاماً
محاولاً أن يُشهِد الناس .. كيف كنت منذ 35 عاماً
كثير الشـك ، ثم أصبحـت مؤمنـاً .. !
يا له من تناقض و جريمـة لا تُغتَفَر لمُفَكِّر .. !
و يبدو أن المُفَكِّر الأمثل عندهم
هو قطعة رخام لا تنتقل من مكانها ،
أو مستنقع آسِن لا يتجدد ماؤهُ ،
أو حياة خاملة راكدة آلية لا تتطوَر !
و يتصور الواحد منهم الفضيلة
و الذِمَّة في أن يكتشف الكاتب خطأه فلا يصححه
و لا يرجع عنه . و يتصور أن الكمال
في العجرفة الفكرية ،
و الجمود و التعصب ، و الثبات ..
و لو على الخطأ ( مادام هذا الخطأ في صالحهم ! )
و لو كنت مؤمناً تحولت إلى الإلحاد
لأخذوني بالأحضان ..
و لقالوا : هذا هو المفكر الشريف بحق ..
هذا هو رائد النقد الذاتي !
و لكن لما كان نقدنا لذواتنا
على غير هواهم ، أصابهم عمَى الألوان ،
فرأوا الأبيض أسود ، و رأوا الفضيلة رذيلة ،
و الذِمّة خيانة .
و لقد حارب خالد بن الوليد
ضد الإسلام بشراسة ،
و أنزل الهزيمة بالمسلمين في " أُحُد " ..
ثم آمن و حمل لواء الدعوة
و أصبح سيف الله المسلول ..
فلَم يقُل أحَد إنه رجل متناقِض بلا مبدأ .
و حارب عمر بن الخطاب الدعوة الإسلامية
في بدايتها بضراوة ..
ثم اعتنق نفس الدين الذي سبه
و سفهه و حاربه ..
فلم يشُك أحد في إيمانه ،
و لا في صدقه و لا في ذمته .
و الإنسان في شبابه مندفع بطبيعته ..
يؤمن بالساذج البسيط الواضح الملموس أمامه ..
و لهذا فهو يستريح إلى المادية
و الفكر المادي ،
لأنها لا تطالبه بشيء غير الموجود أمامه ..
فهي تبدأ من القريب المحسوس و لا تتجاوزه ،
و لا تُجهِد الذهن استخلاصاً للحكمه من ورائه ..
بل إنها لا تعتقد في وجود حكمه ..
لا شيء سِوَى المادة ، التي تتطور تلقائياً
بقوانينها الجدلية الخاصة .
و المفكر المادي لا يحاول حتى أن يسأل نفسه :
مَنْ الذي وضع في المادة قوانينها الجدلية هذه ؟!
و هو نفسه غارق في الغيبيات إلى أذنيه !
بل إن العِلم نفسه – الذي يتشدق به
و يحتكم إليه – غارق في الغيبيات هو الآخر .
العِلم يتكلم عن الإلكترون على أنه حقيقة ..
و لم يرَ أحد الإلكترون ..
و لا نعلم عن الإلكترون سوى آثاره ..
أما الإلكترون ذاته فهو غيب .
و بالمثل : الموجة اللاسلكية ..
لا نعلم عنها إلا آثارها في عمود الإرسال
و جهاز الإستقبال ..
لم ير أحد تلك الموجة الأثيرية ..
و لم يعرف أحد كنهها .
بل الكهرباء ذاتها هي الأخرى طاقة
لا شك فيها و مع ذلك فهي مجهولة الهوية تماماً ..
و لا نعرف عنها إلا مجموعة أثارها الظاهرة
من حرارة إلى ضوء إلى حركة إلى مغناطيسية .
فإذا قلنا لهم :
إن الله بالمثل عرفناه بآثاره ،
و أن " هويته " غيب .. لم يعجبهم كلامنا !
بل إن المفكر المادي يقول في جرأة عجيبة :
" في البدء كانت المادة ،
ثم تطورت المادة إلى كافة صور الحياة و الفكر "
و كأنه كان موجوداً لحظة بداية الخلق ،
متربعاً في كرسي بلكون يتفرج
على ميلاد الدنيا !!
هو يتكلم عن غيب ،
و يبدأ من غيب .. و لا يملك إلا افتراضات
و احتمالات و نظريات ..
ثم يتهمنا نحن بالغيبية !
و هؤلاء هم " دراويش " المادية ،
لا وسيلة لإقناعهم ! لأنهم لا يريدون اقتناعاً ..
و إنما هم اختاروا الجمود العقائدي
و تشنجوا عليه ، و استراحوا إلى ما فيه
من تبسيط مُخِل ، و تلخيص ساذج
للحقائق الكونية . و ليس أبعث للراحة
من اعتقاد الإنسان أنه لا مسئولية هناك ،
و لا بعث ، و لا حساب .. و أن له
أن يفعل ما يشاء .. لا رقيب عليه
و لا حسيب سوى البوليس و المخابرات !
و مثل هذه العقيدة المادية أقرب
إلى قلب بعض الشباب المندفِع الذي يريد
أن ينطلق على هواه .. بلا ضوابط ،
و بلا مساءلة . و ليس صحيحاً أن
الفكر الإلحادي المادي هو الذي أعطانا
حياتنا المتقدمة .. بما فيها من قطارات
و عربات و طائرات و صواريخ و راديو
و تليفزيون .. فهذه الأشياء هي عطاء العلم ..
و العلم تراث متاح للكل ..
و لا مذهب له يطلبه رجل الدين كما
يطلبه رجل الفكر من يمين و يسار .
كان العلم يرفع راياته في مصر
الفرعونية الوثنية كما كان يرفع
راياته في صدر الإسلام .
العلم تراث بشري لا يستطيع أحد أن
يدَّعي ملكيته ، و ليس صحيحاً أن الدين
يناقض العلم . و ديننا يأمر بالعِلم
في أول آية من القرآن :
" اقرأ " . أمر صريح بالعِلم
و التعليم .. في أول حرف نزلت به
تعاليمنا السماوية ..
و العلماء عندنا هم ورثة الأنبياء ،
و هم في القرآن في درجة الملائكة :
{ شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة
و أولوا العِلم .. 18 } ( آل عمران )
و الذي يتصور تناقضاً بين الدين و العِلم ..
لا يعرف ما الدين .. و لا ما العِلم ..
وإنما هو يريد أن يختلِق لنفسه مبرراً للرفض ..
وما أسهل الرفض !
د. مصطفى محمود رحمه الله ..
من كتاب " تأملات في دنيا الله "
تحياتي لكم
عنتر عبدالنعيم ( ابومصطفي )
اخصائي شئون ماليةوادارية
بمعهد قرية الرواتب الابتدائي الازهري
تعليقات
إرسال تعليق